أبو نور!!

يسري سلال 01 فبراير 2019 | 4:09 ص Uncategorized 3524 مشاهدة

أبو نور!!
بقلم الأستاذ/ يسري سلال
 
(مَن يحبُّني، والمقرَّبون منِّي، لا ينادونني إلا بـ: أبو نور )
 
1 – لله ما أعطى .. لله ما أخذ!!
بعد أسبوعَين من زواجي هلَّت البشارة (بعد إجرائنا للتَّحليل على أثر تعب زوجتي ): المدام حامل!!
 
عدت مسرعًا لا أملك نفسي من الفرح، وقبل أن أخبر زوجتي، قرَّرت أن أمرَّ على والدتي أوَّلا؛ لأزفَّ لها الخبر.
 
فرحت كثيرًا، وقبَّلتني فائلةً: ما تقولش لحدّ!!
 
وفي نفس اللَّيلة، وبعد أن اطمأنَّت عليَّ، أُصِيبت بنزيفٍ في المخِّ …. وماتت!!
 

2 – (نور ) .. لماذا؟!

بعد ثمانية أشهرٍ ونصف فقط من زواجي، وفي أوَّل يومٍ من شهرها التَّاسع، وُلِدت نور!!
 
ولقد أسميتها (نور ) على اسم والدتي الرَّاحلة، والدتي التي علَّمتني حبَّ الله والنَّاس والحياة، والدتي التي أُصِيبت بنزيف المخِّ في نفس اليوم الذي عرفت فيه بحمل زوجتي في ابنتي الأولى، والدتي التي – من فرط حنانها – أُصِيبت بنزيف المخِّ لمجرَّد أنَّها رأت أحد أخوتي ميتًا (في المنام )؛ فاستيقظت منزعجةً، ثمَّ ذهبت في النَّوم، ولم يتحمَّل قلبها الكبير ثقل هذا الكابوس، لتُصَاب بعدها بلحظات بغيبوبةٍ طالت لأسبوع، قبل أن تسلم الرُّوح لبارئها.
 
3 – ما أحلى أن تكون أبًا!! وما أروع أن تكون ابنتك هي نور!!
منذ هلَّت نور إلى الدُّنيا، تغيَّرت نظرتي للحياة، واختصرتُ حياتي كلَّها فيها وحدها. وعندما اكتشفتُ أنَّني أخاف عليها (من الهوا الطَّاير )، توقَّفتُ تمامًا عن عقاب طلابي بدنيًّا؛ حتَّى لا أكون مزدوجًا: أخاف على ابنتي، ولا أقبل أن يمسَّها إنسانٌ أيًّا كان، بينما أضرب أنا إنسانًا مثلها، له أبٌ كأبيها، وصرتُ عدوًّا للعقاب البدنيِّ، لا يزعجني شيء قدر انزعاجي من معلِّم يهدر آدميَّة طفل، ويضربه بالعصا، في حين أنَّه ربَّما كان مثلي، لا يتحمَّل أن يعاقب أحدٌ طفله بدنيًّا.
 
وكما قلتُ سابقًا، من فرط حبِّي لنور، بل هوسي بها، كنتُ مستعدًّا أن أكتفي بها؛ فهي عندي بألف ولد، إذا رضيَت رضيتُ، وإذا بكت بكيتُ، وإذا ضحكت أحسستُ أنَّني قد ملكتُ الدُّنيا من أطرافها، وإذا سلمت من المرض شكرتُ الله ولو أصابني ألف مرضٍ ومرض.
 
4 – رمَّانة الميزان!!
نور هي صوت الحكمة في بيتنا الصَّغير، مثقَّفة وواعية منذ نعومة أظفارها، ورثت عنِّي حبَّ المعرفة .. وحبَّ النَّحو!!
 
هي السَّند، وهي الظَّهر، وهي العقل، إذا طلب أحد أخوتها طلبًا، مهما صغر، تزجره وتنهاه؛ حيث لا صوت يعلو عندها على صوت علاجي ودوائي. لا تفكِّر في نفسها مثقال ذرَّة، وتمرُّ سنوات لا تطلب خلالها لنفسها طلبًا واحدًا.
 
نور هي التَّجسيد الحيُّ لمعنى العطف والحنان والمسئوليَّة، وكما كان (سلمان الفارسيِّ ) قد عاش في كَنَف والدٍ يناديه: يا أنا .. فإنَّ نور هي .. أمُّ أبيها!!
 
5 – أنا ونور على طرفَي نقيض .. خلافٌ لا ينتهي!!
رغم سيمفونيَّة العشق التي لا تنتهي بيني وبينها .. فإنَّ بيني وبين نور خلافًا لا ينقطع: هي متفوِّقة جدًّا، ما شاء الله (اللَّهمَّ بارك )، ومجتهدة غاية الاجتهاد، لا تعرف شيئًا في حياتها إلا المذاكرة والاجتهاد .. وهذا بالتَّحديد هو سرُّ الخلاف!!
 
نعم .. خلافي مع نور، سببه أنَّني لا أريدها أن تذاكر!! نعم واللهِ .. لا أريدها أن تذاكر!! لأنَّني أشفق عليها من سهرها ومن إجهادها ومن نومها على الكتاب، وكلَّ ليلةٍ أصرخ فيها، وأحتدُّ عليها (وكم أكره ذلك!! ) لتترك الكتاب، وتريح نفسها؛ فلا يزيدها صراخي إلا عنادًا، ولا تزيدها حدَّتي إلا إصرارًا على المزيد والمزيد من المذاكرة .. فقط لأنَّها نذرت نفسها لتحقيق حلمي الكبير بدخولها كلِّيَّة الطِّبِّ؛ فهي تريد أن تُفرِحني وأن ترفع رأسي، وأن تعوِّضني عن سنين الألم، رغم أنَّني نفسي، لا أريد منها أن تشقَّ على نفسها، وأهون عندي أن ترتاح وألا تحقِّق لي هذا الأمل الموعود .. ولكنَّها نور .. أمُّ أبيها!!
 
6 – عُمر الألم من عُمر نور!!
منذ أيَّام صدمتني زوجتي بعبارةٍ ذكرتها نور أمامها .. العبارة أدمت قلبي: عُمري من يوم ما اتولدت ما شفت بابا كويِّس!!
 
وانتبهتُ إلى الحقيقة الموجِعة:
عمر نور 16 سنة .. قضيتُ منها 15 سنة أتألَّم: 8 سنوات أتألَّم بسبب (النَّاسور ) .. وبمجرَّد أن أجريتُ جراحةً في المعادي بالقاهرة أراحتني من العذاب .. داهمتني قرحتي الخبيثة .. منذ سبع سنواتٍ وحتَّى اليوم .. وهكذا اكتشفتُ أنَّ عُمر الألم من عُمر نور بالفعل .. وأنَّني أفسدتُ حياتها، وحياة أخوتها، بلا ذنب؛ ٍفحرمتهم، بدون قصدٍ، من أن يقضوا طفولةً طبيعيَّةً؛ فصار من المقرَّر عليهم رؤيتي أصرخ وأعاني، وأدركتُ كم أنَّه من الثَّقيل على نفس الطِّفل الصَّغير رؤية والده يصرخ ويبكي من شدَّة الألم، وكم هو محزن أن يعيشوا على تلك الذِّكريات؛ فلا تحمل ذاكرتهم إلا تلك المناظر المؤلمة.
سامحيني يا نور .. فكم هي قاسية ملاحظتكِ .. ولكنَّها إرادة الله يا نور العين!!