أكذوبة تعدِّي (رأى ) البصريَّة لمفعولٍ واحدٍ، وتعدِّي (رأى ) القلبيَّة لمفعولَين!!
قبل أن تقرأ .. ملاحظتان حول منشور الأمس:
1 – الكثيرون أعلنوا استياءهم ممَّا ختمتُ به مقالي أمس .. وهذا هو للتَّذكير:
ليس كلُّ ما ذكره النُّحاة الأوائل صحيحًا، بل إنَّ بعضه يتعارض مع العقل والمنطق، ولا تنسوا أنَّ أجدادنا الأوائل قد صنعوا من العجوة صَنَمًا، ثمَّ عبدوه!! فتخيَّلوا معي أن نجد اليوم مَن يعبد صَنَم العجوة، فإذا سأله سائل: كيف استحقَّ صَنَم العجوة العبادة؟!! قال: لو لم يستحقّ العبادة لما عَبَدَه أجدادنا!!
البعض اعتبر ذلك تشبيهًا لا يليق، وأنَّ فيه إهانةٌ للنُّحاة الأوائل، ولا أدري لماذا يفوت هؤلاء دائمًا المغزى والرَّمز ممَّا أقول. والمغزى أنَّه ليس كلُّ ما ورد عن القدماء يُقبَل على علاته (وإلا لعبدنا الأصنام كما فعل أجدادنا )، فلا يكفي للإقناع أن نقول: هكذا وردت عن النُّحاة؛ لأنَّهم بشر يصيبون ويخطئون، وبعض ما ذهبوا إليه يتعارض مع المنطق، وهذا ليس قدحًا فيهم ولا ذمًّا .. هل يرضيكم أن أقول إنَّهم ملائكة لا يخطئون؟!
2 – إنهاءً للجدل حول جملتَي (أكلتُ الرَّغيف كلَّه – أكلتُ الرَّغيف كلَّ الرَّغيف ):
(أ ) إذا كنتم متَّفقِين على أنَّ (كلَّه ) توكيد، فإنَّ (كلَّ الرَّغيف ) توكيد أيضًا؛ حيث إنَّ المعنى في الجملتَين واحد ومتطابق.
ولمَن يطنطن بأنَّ الثَّانية غير متَّصلةٍ بضميرٍ:
1 – لماذا نعرب أجمعون توكيدًا رغم عدم اتِّصالها بضميرٍ؟
2 – الهاء التي أُضِيفت إليها (كلّ ) الأولى = كلمة (الرَّغيف ) التي أُضِيفت لها (كلّ ) الثَّانية.
(ب ) وإذا كنتم متَّفقِين أنَّ (كلَّ الرَّغيف ) نعت (من باب الوصف بالكمال )، فإنَّ (كلَّه ) أولى بأن تكون نعتًا (من باب الوصف بالكمال أيضًا )؛ لأنَّني قصدتُ كامل الرَّغيف في الجملتَين.
إذن:
– إمَّا أن تعربوا كليهما توكيدًا.
– وإمَّا أن تعربوا كليهما نعتًا.
اتَّفقوا بقى وبلَّغونا!!
وبالعودة إلى منشور اليوم ..
لا أعترض على وجود نوعَين من الرُّؤية؛ فللفعل (رأى ) استخدامان بالفعل:
1 – الرُّؤية البصريَّة [رأيتُ القمر واضحًا ].
2 – الرُّؤية القلبيَّة [رأيتُ الحقَّ واضحًا ].
لكنَّني أعتقد أنَّ القول بأنَّ (رأى ) البصريَّة – في المثال الأوَّل – قد تعدَّى إلى مفعولٍ واحد، وأنَّ (واضحًا ) حال – وأنَّ (رأى ) القلبيَّة – في المثال الثَّاني – قد نصب مفعولَين، أقول إنَّني أعتقد أنَّ القول بكلِّ ذلك مجرَّد هلاوس لا أكثر!!
لا يعنيني أنَّ من النُّحاة الأوائل مَن افترَضَ ذلك، ولا يهمُّني أنَّ سيادتك ربَّما تقول ذلك لتلاميذك في الفصل أو الدَّرس، ولكن بالنِّسبة لي، فإنَّ الحقَّ أحقُّ أن يُتَّبَع؛ فأنا شخصيًّا أعرف الرِّجال بالحقَّ، ولا أعرف الحقَّ بالرِّجال.
(أوَّلا ) سألتُ نفسي: لماذا – يا ترى – عدُّوا (واضحًا ) الأولى حالا، بينما عدُّوا الثَّانية مفعولا به ثانيًا؟
وأجابني عقلي بأنَّهم ربَّما استدلُّوا بكون القمر مادِّيًّا أمامي أستطيع أن أرى حاله وكونه واضحًا بعيني، ولذا فهي حال.
أمَّا في الثَّانية، فالـ (الحقُّ ) معنويٌّ لا يٌرَى، وبالتَّالي لن أرى حاله بعيني.
ومن هنا افترضوا أنَّ الأولى حال، والثَّانية مفعول ثانٍ، وبالتَّالي: الأوَّل متعدٍّ لمفعولٍ واحد، والثَّاني متعدٍّ لمفعولَين.
فإن صحَّ تفسيري لسبب الاختلاف في معاملة كلا الفعلَين، فإنَّ وجهة نظرهم تلك متهافتة أشدَّ التَّهافُت؛ فلا يُشترَط أن أرى الحقَّ رأي العين لأقرِّر أنَّ ما بعده حال، وما المشكلة أن يكون التَّقدير في الثَّانية: رأيتُ الحقَّ حال كونه واضحًا، تمامًا كما جعلتُ التَّقدير في الأولى: رأيتُ القمر حال كونه واضحًا؟؟!!
إنَّ فكرة المادِّيُّ والمعنويُّ في الحكم على الأمر هنا مجرَّد سخافة؛ فاللُّغة العربيّة هي لغة التَّجريد والرَّمزيَّة والمجاز بامتياز، وهي تحفل بالمجاز، وبالرُّموز، ألا يقولون: ركب صهوة قلمه؟!! فهل لهذه العبارة معنى؟!!
ولذلك إذا سألتني: وهل نرى الحقَّ لنعرب ما بعدها حالا؟!! فسأقول لك: احنا هنهزَّر؟!!
(ثانيًا ) إذا كنتم عددتم الثَّاني متعدِّيًا لمفعولَين أصلهما المبتدأ والخبر (وكانا في الأصل: الحقُّ واضح )، فلماذا لم تعدُّوا – بنفس الطَّريقة والمنطق – الأوَّل متعدِّيًا لمفعولَين أصلهما المبتدأ والخبر أيضًا (والأصل: القمر واضح )؟!!
(ثالثًا ) لماذا خصُّوا (رأى ) وحده بهذه الخرافة؟! لماذا لم يقولوا إنَّ ذلك ينطبق أيضًا على (جعل ) مثلا وظنََ وأيّ فعلٍ متعدٍّ آخر؟!
ألا يمكن أن نقول: وجدتُ القمر واضحًا – وجدتُ الحقَّ واضحًا؟
هل ينطبق ما قالوه عن (رأى ) على (وجد ) أيضًا: فيكون الأوَّل متعدِّيًا لمفعولٍ واحدٍ (وواضحًا حال )، ويكون الثَّاني متعدِّيًا لمفعولَين أصلهما المبتدأ والخبر (وواضحًا مفعول ثانٍ )؟
ما الفرق بين (رأى )، و (وجد )؟؟!!
(رابعًا ) لمَن سيستدلُّ على كون (رأى ) البصريَّة متعدِّيةً لمفعولٍ واحدٍ بكوني أستطيع القول: رأيتُ أخي، وتكون الجملة تامَّةً، أقول: وأنا أستطيع أن أقول أيضًا: رأيتُ الحقَّ، والجملة تامَّةٌ أيضًا!!
في النِّهاية، لا أقول إنَّ (رأى البصريَّة ) تنصب مفعولَين لا مفعولا واحدًا، ولا أقول إنَّ (رأى ) القلبيَّة تنصب مفعولا واحدًا لا مفعولَين، ولا أنتصر لأيٍّ من الرَّأيَين، وإنَّما ما أراه أنَّ كليهما (البصريَّة / القلبيّة ) يجوز فيهما الوجهان سواءً بسواء:
– فإذا كانت (واضحًا ) في قولك: رأيت القمر واضحًا، حالا، والفعل متعدِّيًا لمفعولٍ واحدٍ، فإنَّ (واضحًا ) في قولك: رأيتُ الحقَّ واضحًا، حال أيضًا، و (رأى ) القلبيَّة في المثال الثَّاني متعدِّية لمفعولٍ واحدٍ كـ (رأى ) البصريَّة في المثال الأوَّل تمامًا.
– وإذا كانت (واضحًا ) في قولك: رأيت الحقَّ واضحًا، مفعولا ثانيًا، والفعل متعدِّيًا لمفعولَين، فإنَّ (واضحًا ) في قولك: رأيتُ القمر واضحًا، مفعول ثانٍ أيضًا، و (رأى ) البصريَّة في المثال الأوّل متعدِّية لمفعولَين كـ (رأى ) القلبيَّة في المثال الثَّاني تمامًا.
أمَّا التَّمييز بين هذه وتلك فهي افتكاسة بائسة ليس إلا!!