أكلتُ الرَّغيف كلَّ الرَّغيف – أكلتُ الرَّغيف بعض الرَّغيف
من المتَّفق عليه أنَّك لو قلتَ: أكلتُ الرَّغيف كلَّه – أكلتُ الرَّغيف بعضه.
فإنَّ إعراب (كلَّه ) توكيد منصوب، بينما إعراب (بعضه ) بدل بعض من كلٍّ منصوب أيضًا.
لكن تأتي المشكلة عندما تقول: أكلتُ الرَّغيف كلَّ الرَّغيف – أكلتُ الرَّغيف بعض الرَّغيف.
في (أكلتُ الرَّغيف كلَّ الرَّغيف ) يقولون في إعراب كلمة (كلّ ): نعت (من باب الوصف بالكمال ).
بحثتُ كثيرًا فوجدتُ الإجماع منعقدًا على ذلك. هذا ما قاله (عبَّاس حسن ) في (النَّحو ) الوافي، وهذا ما قرأتُه أيضًا في (المعجم الوافي في أدوات النَّحو العربيِّ ).
فما الفرق في المعنى بين قولك: أكلتُ الرَّغيف كلَّه، وقولك: أكلتُ الرَّغيف كلَّ الرَّغيف؟
لا أرى أيَّ فرقٍ (ولو هيِّنًا ) في المعنى؛ فأنتَ أكَّدتَ في المثال الأوَّل كونك أكلتَ الرَّغيف كاملا، وفعلتَ نفس الشَّيء في المثال الثَّاني، والهاء التي اتَّصلت بها (كلّ ) الأولى، تعود أصلا على كلمة (الرَّغيف ) نفسها التي اتَّصلت بها (كلّ ) الثَّانية. انظروا:
– في المثال الأوَّل كان يكفيك القول: أكلتُ الرَّغيف؛ ليفهم المخاطب حتمًا أنَّك أكلتَ الرَّغيف بالكامل (وليس جزءًا منه )، فلمَّا زدتَ على تلك الحقيقة البدهيَّة (كونك أكلتَ الرَّغيف كاملا ) قولك (كلّه )، عدُّوا هذا توكيدًا.
– وفي المثال الثَّاني تكرَّر نفس الأمر بحذافيره:
عندما قلتَ: أكلتُ الرَّغيف، فُهِم تمامًا أنَّك أكلتَ الرَّغيف كاملا، ولكنَّك أكَّدتَ تلك الحقيقة (المؤكَّدة أصلا )، بإعادة التَّأكيد عليها بقولك: (كلّ الرَّغيف ).
فلماذا أجمعوا على إعراب (كلّه ) توكيدًا في الجملة الأولى، بينما أعربوا (كلّ ) في الجملة الثَّانية نعتًا؟؟
لم يدعُهم إلى ذلك إلا عدم اتِّصال (كلّ ) في المثال الثَّاني بضميرٍ، ونحن توارثنا أنَّ التَّوكيد لا يكون توكيدًا إلا باتِّصاله بضميرٍ. ولكن هل (توارُثُنا ) لهذه الحقيقة كافٍ لإقرارها، والتَّسليم بها، وعدِّها من المسلَّمات غير القابلة للنِّقاش؟!
رأيي أنَّ إعراب (كلّ ) في الجملة الثَّانية (توكيد )، حتَّى ولو لم تتَّصل بضميرٍ؛ لأنَّ المعنى في الجملتَين واحد، والتَّوكيد في كليهما واحد.
ليست المشكلة الوحيدة هنا اختلاف إعراب (كلّ ) في الجملتَين، ولكنَّ المشكلة الأخرى أنَّني في حين وجدتُ الكثيرِين قد تناولوا ورود (كلّ ) مجردةً من الضَّمير، ومضافةً بدلا من ذلك إلى نفس الاسم قبلها (والتي أجمعوا على إعرابها نعتًا )، فإنَّني لم أجد أحدًا منهم قد تناوَلَ ورود (بعض ) على نفس الهيئة (أي مجرَّدةً من الضَّمير، ومضافةً إلى نفس الاسم قبلها أيضًا )!!
1 – فلماذا تحدَّثوا عن ورود (كلّ ) على هذه الهيئة، في حين تجاهلوا ورود (بعض )، رغم أنَّ الأشياء تُعرَف بأضدادها؟!!
2 – إذا قلنا: أكلتُ الرَّغيف بعضه، وأكلتُ الرَّغيف بعض الرَّغيف، فماذا ستعربون (بعض ) في المثال الثَّاني؟! هل ستعربون الأولى بدلا، والثَّانية نعتًا أيضًا، رغم أنَّ المعنى في كلتا الجملتَين متطابق؟!
لستُ متأكِّدًا في الحقيقة كيف سيعربونها في المثال الثَّاني، ولا أعرف هل سيعربونها نعتًا أيضًا، أم أنَّ هناك (تخريجةً ) أخرى سيتحفوننا بها!!
ما أراه – وقد أكون مخطئًا – أنَّ:
– أكلتُ الرَّغيف كلَّ الرَّغيف: إعراب (كلّ ) توكيد [رغم عدم اتِّصالها بضميرٍ ].
– أكلتُ الرَّغيف بعض الرَّغيف: إعراب (بعض ) بدل [رغم عدم اتِّصالها بضميرٍ ].
– أكلتُ الرَّغيف نفس الرَّغيف: إعراب (نفس ) توكيد [رغم عدم اتِّصالها بضميرٍ ].
ليس كلُّ ما ذكره النُّحاة الأوائل صحيحًا، بل إنَّ بعضه يتعارض مع العقل والمنطق، ولا تنسوا أنَّ أجدادنا الأوائل قد صنعوا من العجوة صَنَمًا، ثمَّ عبدوه!! فتخيَّلوا معي أن نجد اليوم مَن يعبد صَنَم العجوة، فإذا سأله سائل: كيف استحقَّ صَنَم العجوة العبادة؟!! قال: لو لم يستحقّ العبادة لما عَبَدَه أجدادنا!!