الاستفهام الحقيقيُّ والاستفهام الاستنكاريُّ – تجربة حيَّة وواقعيَة!!

يسري سلال 24 ديسمبر 2018 | 7:13 م شخصيٌّ 14811 مشاهدة

الاستفهام الحقيقيُّ والاستفهام الاستنكاريُّ – تجربة حيَّة وواقعيَة!!
بقلم الأستاذ/ يسري سلال
 
إذا افترضنا أنَّ مدرِّسًا للبلاغة سأل طالبًا عن غرض الاستفهام في سؤال: ما اسمك؟ الذي وجَّهه شخصٌ، لشخصٍ آخر؛ بهدف معرفة اسمه، فمعلِّم البلاغة هذا، مع كلِّ الاحترام، لا يعرف الفرق بين الاستفهام الحقيقيِّ، والاستفهام البلاغيِّ.
 
الاستفهام الحقيقيُّ هو الاستفهام الذي يكون الغرض منه الحصول على إجابة، أمَّا الاستفهام البلاغيُّ، فلا يكون الهدف منه معرفة الإجابة، وإنَّما توصيل انطباع إلى المخاطب، يستتر وراء هذا الاستفهام، كالتَعجُّب، والاستنكار، والنَّفي، والتَّقرير، وغير ذلك، وهذا النَّوع من الاستفهام هو الذي يكون محلًّا للسُّؤال في امتحانات البلاغة.
 
فإذا سأل سائل مثلا: وهل يظلم ربُّك أحدًا؟ فإنَّه لم يسأل غالبًا بغرض الحصول على إجابةٍ بالنَّفي أو الإيجاب، وإنَّما هو ينفي عن الله – بشكلٍ غير مباشرٍ – صفة الظُّلم، فكأنَّه يقول: الله لا يظلم أحدًا؛ فغرض الاستفهام هنا هو النَّفي.
 
فإذا قال قائل: ولماذا لم يقل المتحدِّث: الله لا يظلم أحدًا، عوضًا عن الاستفهام الذي يعني ذلك ضمنًا؟ فإنَني أقول له: إنَّ النَّفي الذي يُستوحَى من السُّؤال أبلغ وأجمل من النَّفي المباشر؛ لأنَّ به إعمالا للذِّهن؛ فأنت عندما تقرأ السُّؤال ستقول لنفسك: ماذا يقصد السَّائل من هذا الاستفهام؟ وبالتَفكير ستستنتج أنَّه لم يسأل وينتظر الجواب، وإنَّما هذا استفهامٌ (بلاغيٌّ ) غرضه النَّفي.
وهكذا فإنَّ كلَّ استفهام تكون إجابته بـ (لا ) يكون غرضه في الغالب النَّفي.
 
كما تقول لابنك المعترض على شيءٍ معيَّنٍ (بالعامِّيَّة ): أنا عمري حُشت منَّك حاجة؟ فأنت هنا لا تسأله لتعرف إجابته على السُّؤال بـ: نعم، سبق لك أن منعت عنِّي أشياء!! أو: لا، لم يسبق أن حدث ذلك، وإنَّما أنت تقصد أن تقول له (بالعامِّيَّة أيضًا ): أنا عمري ما حُشت منّك حاجة، أي النَّفي.
 
فإذا كانت الإجابة المتوقَّعة (بلى ) مثلا، فإنَّ الاستفهام يكون غرضه البلاغيُّ التَّقرير (عكس النَّفي )، كما في قوله – سبحانه -: “أليس الله بعزيزٍ ذي انتقام “.
 
……………
……………
 
اقرءوا الحوار الواقعيَّ التَّالي:
 
صوتٌ نسائيٌّ على الهاتف: آلو .. السَّلام عليكم.
أنا: وعليكم السَّلام.
 
الصَّوت النِّسائيُّ: الأستاذ يسري سلال؟
أنا: أيوه .. مين حضرتك؟
 
الصَّوت النِّسائيُّ: أنا ……. من ……….
أنا: أهلا وسهلا .. ازّيّ حضرتك.
 
الصَّوت النِّسائيُّ: أهلا وسهلا .. مشكلتك إيه؟
أنا: مفيش واللهِ .. بأعاني من قرحة وريديَّة من 7 سنين و …… [تقاطعني ]
 
الصَّوت النِّسائيُّ (مستنكرًا ): مش أنت مدرِّس؟
أنا: أيوه.
 
الصَّوت النِّسائيُّ: مش لك تأمين صحِّيّ؟
أنا: أيوه.
 
الصَّوت النِّسائيُّ: أمَّال إيه المشكلة؟
أنا: ماليش علاج في التَّأمين الصِّحِّيّ خالص، ولفِّيت على كلِّ المستشفيات في دمياط
والمنصورة بدون نتيجة؛ لأنَّ حالتي متأخِّرة، وحتَّى العلاج .. مفيش أيّ حاجة منه موجودة
هناك .. ومش بأصرف إلا الأنسولين فقط، وبأشتري كلّ حاجة على حسابي.
 
الصَّوت النِّسائيُّ: والمطلوب إيه؟
أنا (أشعر بالحرج من الرَّدِّ .. ولكنَّني بعد صمتٍ دام لثوانٍ أقول ): مفيش واللهِ .. نفسي أتعالج .. عشان أوقَّف الحقن المسكِّنة قبل ما تجيب لي فشل كلويّ.
 
الصَّوت النِّسائيُّ (بحدَّة ): أيوه يعني المطلوب إيه؟
أنا (متعجِّبًا من تكرار نفس السُّؤال الذي أجبتُ عليه منذ لحظاتٍ ): أتعالج .. أصلي بألفّ من 7 سنين بدون نتيجة.
 
الصَّوت النِّسائيُّ (للمرَّة الثَّالثة .. ولكن هذه المرَّة بحدَة أكثر .. وبنفاذ صبر ): يعني المطلوب إيه؟؟!!
أنا: أسكت هذه المرَّة، وأخاف من الرَّدِّ!!
 
الصَّوت النِّسائيُّ: طيِّب .. هنبقى نكلِّمك.
أنا: أغلق السَّمَّاعة.
 
وأفكِّر .. لأكتشف مفاجأتَين:
الأولى: أنَّ نفس السَّيِّدة الفاضلة، اتَّصلت بي منذ شهور، عقب النَّشر عن الحالة بأحد المواقع، وتكلَّمت معي بنفس الطَّريقة، يشهد الله، وبنفس الحدَّة، وطرحت نفس الأسئلة، وأنهت المكالمة بنفس الطَّريقة، ولكنَّها نَسَت!!
 
والثَّانية: أنَّني اكتشفت أنَّ السُّؤال المؤرِّق الذي كرَّرته ثلاث مرَّاتٍ، والذي تعاملتُ أنا معه باعتباره (استفهامًا حقيقيًّا ) الغرض منه الحصول على إجابة، ومعرفة اللَّازم لتقوم به، هو في الحقيقة (استفهام استنكاريٌّ ) وليس (استفهامًا حقيقيًّا )، وأنَّ غرضها من السُّؤال هو استنكار أن أكون معلِّمًا، ولديَّ تأمين صحِّيٌّ، ومع ذلك أطالب بالعلاج، وفي كلِّ مرَّة كانت تقول: والمطلوب إيه؟ كانت تقصد: وهنعمل لك إيه يعني؟!! بينما أجيب أنا – كالمعتوه – على سؤالها الاستنكاريِّ بكلِّ حسن نيَّة، معتقدًا – لفرط تغفيلي وسذاجتي – أنَّها تسألني لمعرفة المطلوب لكي تساعدني.
 
وهكذا اكتشفتُ أنَّني – كالتِلميذ البليد – لا أفقه الفرق بين (الاستفهام الحقيقيِّ ) و (الاستفهام الاستنكاريِّ )!!
الله حسيبي.