بدل العار .. عن بدل حضور الامتحانات أتحدَّث!!

يسري سلال 29 ديسمبر 2019 | 1:12 ص قضايا تعليميَّة 1500 مشاهدة

قبل أن تقرأ ….
في التِّسعينيَّات، وبدايات الألفيَّة الحاليَّة، كنَّا نعرف في مدارسنا ظاهرة، اندثرت منذ عدَّة سنواتٍ، وهي ظاهرة (اللِّجان الوزاريَّة ).

كلَّ فترة تهبط على الإدارة التَّعليميَّة لجنة من الوزارة، تقيم داخل الإدارة لمدَّة أسبوعٍ، تقسِّمه على عدَّة مدارس من مدارس الإدارة: كلَّ يومٍ مدرسة؛ حيث كانت تدخل إلى المدرسة، فيتولَّى كلُّ فردٍ من أفرادها (أفراد اللَّجنة ) جانبًا من الجوانب (الإداريَّة، والتَّعليميَّة )، وفي نهاية اليوم تعدُّ تقريرًا شاملا عن العمل داخل المدرسة.

وفي غالب الأحيان كان التَّقرير إيجابيًّا للغاية؛ اتِباعًا لسياسة (كلّ شيء تمام ).

ومع ذلك، فقد كان لتلك اللِّجان رهبة كبيرة؛ حيث تعلن الإدارة الطَّوارئ، وكذا جميع مدارس الإدارة؛ بحيث ينتظم العمل بديوان الإدارة، وبجميع مدارسها، طوال مدَّة وجود اللَّجنة؛ حتَّى تمرَّ الزِّيارة بسلامٍ.

أمَّا عن سبب كون التَّقرير دائمًا إيجابيًّا؛ حيث يتمُّ التَّغاضي عن كافَّة وجوه القصور التي تصادفها؛ فهو ما يتلخَّص فيما يلي:

لم تكن زيارات المدارس سرِّيَّة ومفاجئة (كما ينبغي أن تكون )، وإنَّما عن إخطارٍ مسبقٍ؛ حيث تعدُّ اللَّجنة جدولا بالمدارس التي ستزورها؛ فينسِّق مسئولو الإدارة مع إدارات هذه المدارس، ويبلغونهم مسبقًا بمواعيد الزِّيارة ليستعدُّوا.

وكان أوَّل مظاهر هذا (الاستعداد ) هو جمع مبلغ من كلِّ معلِّمٍ وإداريٍّ وعاملٍ بالمدرسة؛ لشراء وجبة غداءٍ (معتبرة ) للَّجنة (بالنِّسبة لنا في دمياط، كانت الوجبات غالبًا هي السَّمك البوريُّ الذي تشتهر به المحافظة ).

فإذا كان يوم الزِّيارة المشهود سينتهي بتلك الوليمة المعتبرة؛ فكيف تتوقَّع أن تسير الزِّيارة، إلا أن تكون إشادةً بما شهدته اللَّجنة (من روعة العمل والإنجاز والالتزام بالمدرسة )؟!!

وكنتُ أتعجَّب بشدَّةٍ من هذا الفساد، الذي لم أعرف أسبابه إلا في سنة 2005، عندما اُنتُدِبتُ من قِبَل الأستاذ الدُّكتور أحمد جمال الدِّين موسى، وزير التَّربية والـَّعليم وقتها، للعمل بديوان عام الوزارة؛ مكافأةً لي، بعد أن التقاني في مكتبه، على دراستي البحثيَّة الضَّخمة، عن الأخطاء في كتب اللُّغة العربيَّة، بالمراحل التَّعليميَّة وقتها.

وفي ديوان عام الوزارة، وتحديدًا بإدارة التَعليم الثَّانويِّ، حيث كان مقرُّ انتدابي، فهمتُ سبب الفساد المتفشِّي والمتعلِّق بلجان المتابعة الوزاريَّة؛ حيث عرفتُ من زملائي الكبار هناك أنَّهم يُنتدَبون للمشاركة في اللِّجان الوزاريَّة بالمحافظات المختلفة؛ فيقاسون الأهوال، ويعانون أشدَّ أنواع المعاناة في الانتقال والإقامة، ويتغرَّبون عن بيوتهم، مقابل مكافآتٍ هزيلة ومضحكة، قدَّرها أحدهم وقتها لي؛ حيث قال إنَّه يصرف نظير كلِّ زيارة (لمدَّة أسبوعٍ كاملٍ ) مبلغ 60 جنيهًا!!!!

وهنا فهمتُ كلَّ شيء!!

الشَّرف شرف، والمبادئ لا تتجزَّأ، ومهما كنتَ مضغوطًا، فإنَّ هذا لا يبرِّر لك أن تمدَّ يدك، وأن تتنازل عن مبادئك. كلُّ هذا أعرفه، وأؤمن به، ولكن هل من العدل إنّك (تمرمط ) النَّاس بهذه الصُّورة، مقابل قروشٍ زهيدة، لا تطعم ولا تغني من جوعٍ، ثمَّ تطلب منهم أن يتعفَّفوا ولا يمدّوا أيديهم إلى الحرام؟!!

شيءٌ شبيهٌ بذلك يحدث، فيما يتعلَّق بأعمال الامتحانات:
بدلات مخزية ومشينة؛ حيث تستمرُّ امتحانات الشّهادة الإعداديَّة مثلا لمدَّة أسبوعٍ كاملٍ، يلاقي فيها الملاحظ والمراقب كلَّ أشكال الهوان، من التَّنقُّل في وسائل المواصلات، والقيام بأعمال الامتحانات، وتحمُّل سخافات الطَّلبة التي لا تنتهي، ومضايقات وتحرُّشات أولياء الأمور، وتسلُّط إدارات اللِّجان، ويتحمَّل مخاطر الملاحظة، واحتمال تعرُّضه للجزاء الرَّادع في حالة حدوث أيِّ وجوه تقصيرٍ (حتَّى ولو لم يكن له ذنبٌ فيها )، ويواجه كافَّة أنواع الإيذاء البدنيِّ والمعنويِّ، مقابل 100 جنيه (وربَّما أقلّ أو أكثر بقليلٍ ). ثمَّ تتباكى الوزارة، وتشكو مرَّ الشَّكوى، من المعلِّمِين الجشعِين الملاعين ناكرِي الجميل، الذين يتهرَّبون من أعمال الامتحانات، ويفرُّون منها فرار الفريسة من الأسد.

أمَّا الوضع في امتحانات الثَّانويَّة فهو وأشدُّ وأنكى. وحدِّث، ولا حرج:
حيث تطول الامتحانات إلى شهرٍ، وتتضاعف المخاطر داخل اللِّجان، وتقوى التَّحرُّشات وتتوحَّش؛ حيث يعتبره الجميع (الطَّلبة – أولياء الأمور – الوزارة ) ملطشة!! أيضًا نظير مكافآتٍ تعيسة بائسة.

وتتعدَّد الأسئلة ….
1 – لماذا تنفق الدَّولة بسخاء، بل وبسفه، على كثيرٍ من الأمور التَّافهة، وتبخل ببدلاتٍ معقولةٍ للامتحانات، تتناسب مع ما يواجهه المعلِّم فيها من صنوف القهر؟

2 – لماذا تحتقر الدَّولة المعلِّمِين: فإذا حاسبت أو ضربت، ضربت بيدٍ من حديدٍ، وإن أعطت كانت أشحَّ من أشعب؟

3 – لماذا تنظر الدَّولة دائمًا إلى المعلِّمِين نظرة متدنِّية، على عكس جميع الدُّول المحترمة في العالم؟

4 – لماذا تطالب الدَّولة المعلِّمِين بأن (يعطوا ) و (لا يأخذوا )؛ من باب (ماتقولش إيه ادّتنا مصر .. قول هندِّي إيه لمصر )؟!!

5 – لماذا تؤدِّي واجبك طوال سني حياتك، فإذا تجرَّأت يومًا بالمطالبة، ولو ببعض حقوقك، بعد أن يفيض بك الكيل، وتُغلَق جميع الأبواب في وجهك، عدُّوك خائنًا ومتمرِّدًا ومجرمًا؟

لقد هان المعلِّم في نظر الدَّولة، وكذا في نظر أولياء الأمور، وصار (الحيطة الواطية )،عندما هان في نظر الوزير المسئول عنه، والذي كان يُفترَض أن يكون المدافع عنه، والمنادي بحقوقه، فإذا به يصير شوكة في ظهره!!!!