(دبلون صنايع ) التَّعليم الفنِّيُّ الذي مات وشبع موتًا!!

يسري سلال 21 أكتوبر 2018 | 11:45 م قضايا تعليميَّة 3030 مشاهدة

(دبلون صنايع ) التَّعليم الفنِّيُّ الذي مات وشبع موتًا!!
دراسة بقلم الأستاذ/ يسري سلال
برعاية موقع (نحو دوت كوم )

لا أعرف دولة في التَّاريخ تفتح (دكَّانًا ) تسميه كذبًا وزورًا بـ (التَّعليم الفنِّي ) [وما هو بتعليمٍ

، ولا هو فنِّيّ ]، وتضخُّ فيه سنويا مليارات الجنيهات، في وقتٍ يأكل فيه قسمٌ لا يُستهان به

من أبنائه من صناديق القمامة، فقط للوجاهة و (التَّهليب ) والفساد من كلِّ نوعٍ، إلا مصر!!

تقول الدَّولة للطُّلاب الفاشلين، الذين لا يجيد معظمهم مبادئ القراءة والكتابة، وللمعلِّمين

الذين لا يضعون – لأسبابٍ مختلفةٍ – الوظيفة والتَّدريس والعلم في حسبانهم: لا تقلقوا؛

سنوفِّر لكم ملاذًا آمنًا، وواحةً تظلُّكم، تدارون فيها فشلكم، وتختبئون فيها بعيوبكم

وعاهاتكم، وسنسمِّيه زورًا وبهتانًا بـ (التَّعليم الفنِّيِّ ) [وما هو بتعليمٍ، ولا هو فنِّيّ ]!!

فأمَّا بالنِّسبة للطُّلاب، فيكفيك أن تعلم أنَّ قسمًا كبيرًا من الملتحقين بالثَّانويَّة العامَّة كلَّ

عامٍ لا يجيدون القراءة والكتابة؛ لأنَّهم تسلَّقوا إلى مقاعدهم بالثَّانوي العامِّ عبر الغشِّ في

امتحانات الإعداديَّة، فما بالك بمَن لم يفلح معه حتَّى ذلك الغشُّ الذي تتحاكى به الرُّكبان؛

فحصل على 140 من أصل 280؛ ليكون مثالا ناصعًا وتجسيدًا حيًّا لـ (أمِّيَّة المتعلِّمين )

في أبشع صورها.

وفي حين لا يشغل هذا النَّوع من الطُّلاب أنفسهم إلا بالحصول على (دبلون ) [هكذا

ينطقونها !! ] فقط ليعفيهم ذلك من قضاء سنةٍ إضافيَّةٍ في الجيش، تطمئنهم الدَّولة

بأنَّها ستساعدهم على تحقيق هذا الهدف المقدَّس، وأقصد به الإعفاء من التَّجنيد لسنةٍ

إضافيَّةٍ، وذلك بأن تفتح لهم تلك الدَّكاكين التي يقضون بها عدَّة ساعاتٍ يوميًّا من باب

تزجية وقت الفراغ، والتَّرويح عن النَّفس!!

أمَّا بالنِّسبة للمعلِّمين، وأتمنَّى أن يتحمَّلني الأخوة العاملون في هذا النَّوع من المدارس،

وألا يأخذوا كلامي على إطلاقه، ولهم منِّي جميعًا كلُّ الاحترام على كلِّ حالٍ، ولكنَّ الحقَّ

– رغم حرصي على ألا أغضبهم – أحقُّ أن يُتَّبع؛ ولذا سأتجرَّأ وأجهر بالحقيقة التي يخشى

الجميع من الجهر بها، وهي أنّ المعلِّمين في هذه المدارس لا يخرجون عن الأنواع التَالية:

النَّوع الأوَّل:

هم المعلِّمون المستضعفون والمجرَّدون من أيِّ نفوذ، والذين تلقي بهم الوزارة إلى هذه

المستنقعات لمجرَّد أنَّهم لا يملكون أيَّ واسطةٍ تحميهم من النَّقل، كما تحمي غيرهم من

المدعومين؛ فيقبل هؤلاء المقهورون بالعمل في هذه المدارس كرهًا، وتنعكس تلك

الكراهيَّة غالبًا عليهم تبلُدًا، ورغبةً في الانتقام من الدَّولة التي نكَّلت بهم؛ فيتعوَّدون

على الإهمال ويدمنون (الطَّناش )، وتموت مواهبهم إكلينيكيًّا بالتَّدريج؛ لكي يستطيعوا

أن يتعايشوا مع تلك الأماكن الموبوءة والبيئات غير الصِّحِّيَّة، وحتَّى مَن كان منهم معلِّمًا

متحمِّسًا ومتميِّزًا، تضيع موهبته، ويتبدَّد تميُّزه، ويصبح رقمًا في سجلِّ الفاشلين.

والنَّوع الثَّاني:

هم المعلِّمون الذين لا يفقهون شيئًا في الموادِّ التي يدرِّسونها، فلا أمل من أيِّ نوعٍ في أن يعملوا في الدُّروس الخصوصيَّة مثلا، أو أن يتربَّحوا – مثل غيرهم – من سبُّوبة الدُّروس، والذين دخلوا كلِّيَّات التَّربية بالأساس بسبب التَّنسيق، والذين ربَّما لم يكونوا مختلفين في طفولتهم وشبابهم عن الطُّلاب الذين يدرِّسون لهم في تلك المدارس، وهؤلاء يفضِّلون الانزواء هنا بعيدًا عن العيون التي قد تنتقد ضعفهم.

والنَّوع الثَّالث:

قسم من المعلِّمين يجمعون بين العمل في التَّدريس والعمل في عمل آخر، ويفضِّلون البقاء هنا؛ حيث (التَّزويغ ) سهلٌ يسير، و (الحياة حلوة )!!

والنَّوع الرَّابع:

وأقوله من باب حسن الظَّنِّ فقط، وتلطيفًا للجوِّ؛ لأنَّني – في الحقيقة – لستُ واثقًا من وجود هذا النَّوع أصلا، ولكنَّني سأفترضه افتراضًا، وهو صنفٌ ربَّما يكون قابضًا على الجمر، ويتعامل مع هذا النَّوع من التَّعليم والمدارس والطُّلاب بجدِّيَّةٍ، فهو (ربَّما ) يخلص في عمله، ويجتهد في شرح الدُّروس، وأخشى أنَّ هذا النَّوع ربَّما يكون خرافةً وأسطورةً من الأساطير، كالعنقاء تمامًا!!

ملاحظة مهمَّة جدًّا:
هذا التَّقسيم خاصٌّ بالموادِّ (الثَّقافيَّة )، الذين أنتمي أنا إليهم؛ ولذا أعطيت لنفسي الحقَّ في تقييمهم، وليس بموادِّ التَّخصُّص الفنِّيَّة في هذه المدارس؛ لأنَّني لا أعرفهم، ولا أعرف طريقة تفكيرهم، ولا حقيقة نظرتهم وتقييمهم لتلك المهزلة!!

والآن .. إليكم هذه الإضاءة:
عملت في منتصف التِّسعينيَّات، في مدرسةٍ ثانويَّةٍ زراعيَّةٍ، كنت منتدبًا للعمل فيها ثلاثة أيَّامٍ في الأسبوع، وذلك بعد صدور قرار تعييني مباشرةً، ورأيت فيها أهوالا، وسأخبركم ببعضها فقط؛ حرصًا على مشاعركم المرهفة:

1 – نسبة مَن يجيدون القراءة والكتابة من الطُّلاب لا يمكن أن تتجاوز 25 % في أحسن الأحوال.

2 – أنت كمعلِّم مادَّة (ثقافيَّة ) تُعامَل باحتقارٍ من الجميع، وأوَّلهم الطَّلبة الذين لا يقيمون لك وزنًا ولا اعتبارًا، ويتعاملون معك باستخفافٍ كامل؛ لأنَّهم يدركون يقينًا أنَّك في هذا المكان لا تساوي شيئًا؛ بعكس معلِّمي التَّخصُّص الذين كانوا يتفنَّنون في إذلالهم والعصف بهم؛ بصفتهم المتحكِّم الأوَّل في نجاحهم.

3 – أنت تتعامل مع صنفٍ من الطُّلاب متبلِّدي الحسِّ والمشاعر؛ فليست مشكلتهم فقط في جهلهم المطبق، ومستواهم العلميِّ المشين، وإنَّما مستواهم الأخلاقيُّ المنحدر، وللأسف، وكم يمزِّقني أن أقثول ذلك، ولكنَّها الحقيقة رغم كلِّ شيء، حتَّى لو كنت أضع الملح على الجرح، فقد كانت تنتشر بين الطُّلاب والطَّالبات علاقاتٌ غير شرعيَّة، وقد سمعت أيَّامها أهوالا، ورأيت إشاراتٍ مزلزلة في هذا الصَّدد.

ومنذ أيَّام قرأت تحقيقًا في جريدةٍ مستقلَّةٍ عن مدارس التَّعليم الفنِّيِّ [التي لا تقدِّم تعليمًا، ولا فنًّا ] التي تطفح بالعلاقات غير السَّويَّة، مع (كوكتيل ) من المخدِّرات والأسلحة البيضاء والبلطجة وغير ذلك.

لن أعمِّم أيضًا؛ فربَّما، ربَّما، هناك شريحة من طلاب هذه المدارس، قد تربَّت على الفضيلة؛ فلم يفسدها هذا الجو غير الشَّريف؛ فاحتفظت بنقائها، وربَّما، ربَّما، يوجد منهم أيضًا مَن يستحقُّ وضعًا أفضل، وتعليمًا أفضل، ولكنَّني هنا أوصِّف الحال بالنِّسبة لما أظنُّه الأغلبيَّة الكاسحة، وللأسف حتَّى البذرة الطِّيِّبة، لا يعقل أن تنبت في هذه التُّربة الخبيثة، وحتَّى مَن كان منهم عند حسن الظَّنِّ به، فهو في الغالب سيتطبَّع بطباع مَن حوله، فربَّما يجاريه حتَّى لا يكون نشازًا وسط أنغام القبح تلك، فينقلب إلى مسخٍ شائه، تمامًا كصغار المجرمين، الذين يُسجَنون فيتعلَّمون الإجرام (على أصوله )، فيدخل السِّجن وهو يحمل لقب (مبتدئ )، ويتخرَّج منه وهو يحمل لقب (عتيد في الإجرام )!!

وما زلتُ أحتفظ في ذاكرتي بمشهدٍ لا يُنسَى:
كنَّا مجتمعين كأسرة مادَّة اللُّغة العربيَّة في أحد الفصول، في المدرسة الزِّراعيَّة المشئومة تلك، ونقوم بتصحيح امتحان آخر العام، ودخل علينا مدير المدرسة، ووقف يراقب عمليَّة التَّصحيح، وفجأة لفت انتباهه أنَّ أحد الزُّملاء يضع علامة خطأ على أحد الأسئلة في كرَّاسة الإجابة التي أمامه؛ فانفعل بشدَّةٍ، ودار الحوار التَّالي، الذي أستأذنكم أن أنقله إليكم، كما دار، وبالعامِّيَّة؛ فلا شيء سيظهر هذه الفضيحة ويعرِّيها إلا روايتها بنفس الحروف التي وردت بها:
المدير (مرتاعًا ): إيه ده؟ وأشار إلى علامة الخطأ الحمراء في ورقة الإجابة
المعلِّم (مرتبكًا ): غلط .. الإجابة غلط
المدير (ثائرًا ): غلط؟ بتقول غلط؟ عربي ده ولا مش عربي يا أستاذ؟!!
المعلِّم: عربي .. لكن غلط
المدير: ما دام عربي (يقصد ما دام أنَّه كتب كلامًا باللُّغة العربيَّة ) يبقى صحّ يا أستاذ!!
وهكذا غيَّرنا سياسة التَّصحيح .. إذا كتب الطَّالب كلامًا عربيًّا .. بواسطة حروفٍ عربيَّة لا إنجليزيَّة .. فإجابته صحيحة .. أيًّا كانت!!!!
لكن السُّؤال الذي كان يفتك بي وقتها: هيكتبوا إنجليزي ازَّاي .. وهم لا يستطيعون ولا يجيدون القراءة والكتابة باللُّغة العربيَّة أصلا!!!!

في هذا العصر .. ولا أعرف هل ما زالت هذه السِّياسة الميمونة مطبَّقة أم لا .. كانت النَّتيجة تذهب إلى الٍسَّيِّد مدير الإدارة لاعتمادها، فيرفض اعتمادها، ويعيدها لـ (رفعها )؛ لأنَّها أقلُّ من 60 % مثلا (في مدرسة لا يجيد 5 % من طلابها القراءة والكتابة أصلا )؛ لأنَّ النَّتيجة بهذا الشَّكل ستسيء لـ (برستيج ) مدير الإدارة أمام وكيل الوزارة .. وهكذا نعيد نحن التَّصحيح .. لنكتب بأيدينا في الورق حتَّى تزيد نسبة النَّجاح!!!!

ملاحظة:
واللهِ الذي لا إله إلا هو، في بداية تعييني، فُوجِئت أنَّ الطَّبيعيَّ في مدرستي الرِّيقيَّة أنَّ كلَّ معلِّم يحمل قلمَين: الأوَّل أزرق يكتب به الإجابه (بيده اليسرى كوسيلةٍ للتَّمويه أحيانًا )، وأحمر ليصحِّح به ما يكتبه بنفسه، والله على ما أقول شهيد.

والسُّؤال المهمُّ الذي أتمنَّى أن نجيبه بكلِّ شفافيَّة وتجرُّد وصراحة مع النَّفس، مهما كانت تلك الصَّراحة موجعة:

1 – هل يتمُّ التَّدريس في هذه المدارس بنفس الجدِّيَّة التي يتمُّ التَّدريس بها في التَّعليم العامِّ؟

2 – هل يتخرَّج الطُّلاب من هذه الدَّكاكين وقد تزوَّدوا بالحدِّ الأدنى من العلم أو المعرفة أو حتَّى الأساسيَّات؟

3 – هل تعلِّم هذه المدارس حرفًا بالفعل، وهل تفيدهم الدِّراسة فيها مهنيًّا؟

4 – هل تستحقٌّ مخرجات هذه المدارس، التي هي في الحضيض على جميع المستويات، ما يُنفَق عليها من المليارات؟

5 – هل يمكن مقارنة هذه المدارس بما يُقدَّم فيها من غثاء بالمدارس في أيِّ دولةٍ نصف متقدِّمة؟

وأرجوكم، أرجوكم، لا تعتبروا هذا المقال مساسًا بالمعلِّمين؛ فأنا واللهِ أحترمكم وأجلُّكم، وأنا منكم، وأنتم منِّي، ولكنَّني أرى أنَّنا لن نخرج من الهوَّة الحضاريَّة السَّاحقة التي نستقرُّ فيها إلا بالمصارحة الشَّاملة، والنَّقد الذَّاتيِّ، وإعلاء المصلحة العامَّة على كلِّ شيء.