عبقريَّة اللُّغة العربيَّة وإبداعها – 4 أمثلة متفرِّدة!!

يسري سلال 29 مارس 2019 | 12:56 ص عامٌّ 4151 مشاهدة

عبقريَّة اللُّغة العربيَّة وإبداعها – 4 أمثلة متفرِّدة!!
بقلم الأستاذ/ يسري سلال
برعاية موقع نحو دوت كوم – ومبادرة نَحْوَ نَحْوٍ جَدِيدٍ

آه ما أحلى العربيَّة!! وكم أتشرَّف وأزهو لأنَّني عربيٌّ، أتحدَّث بتلك اللُّغة!!

في هذا المقال سأذكر بعض الأمثلة التي إن دلَّت على شيءٍ فإنَّما تدلُّ على أنَّ اللُّغة العربيَّة لغة ثريَّة غاية الثَّراء، وأنَّها كقاع البحر (رحم الله حافظ إبراهيم ) الذي يذخر باللَّآلئ، فلا عجب أن نكتشف فيها جديدًا كلَّ يومٍ!!

(أوَّلا ) الإمام الشَّافعيُّ: شيخٍ فقيهٍ، أم بروفيسير في علم النَّفس!!
اقرءوا معي هذا القول البليغ الممتع الرَّائع للإمام الشَّافعيِّ، الذي تتعجَّب وأنت تقرأه، ولا تملك إلا أن تسأل نفسك: هل هذا قول شيخٍ فقيهٍ، أم بروفيسير في علم النَّفس!!.. اقرءوا:

“أصعبُ الحرامِ أوَّلُهُ، ثمَّ يَسهُلُ، ثمَّ يُستسَاغُ، ثمَّ يُؤلَفُ، ثمَّ يحلو، ثمَّ يُطبَعُ على القلبِ، ثمَّ يبحث القلبُ عن حرامٍ آخرَ “.

وهذه هي دلالات ما قاله العبقريِّ الفذِّ الإمام الشَّافعيِّ، وهو يشرِّح النَّفس الإنسانيَّة بمبضع جرَّاحٍ خبيرٍ:
1 – أصعب ذنبٍ تقترفُهُ هو الذَّنبُ الذي ترتكبه للمرَّة الأولى. ولتفترض معي أنَّك قضيتَ العمر نزيهًا عفيفًا شريفًا، لم تمدّ يدك إلى حرامٍ قَطّ، ثمَّ، ولظروفٍ ما، بدأتَ تفكِّرُ في أن تتغيَّرَ وتمدَّ يدك إلى الحرام.

أغلب الظَّنِّ أنَّك ستبقى لفترةٍ طويلةٍ متردِّدًا معذَّبًا، تحاول أن تُقنِع نفسك بالإقدام على هذا الفعل الشَّنيع؛ فتأبى نفسك المفطورة على الخير أن تقتنع؛ فتبدأ في البحث عن مبرِّرٍ يسهِّل الأمر عليك، وتظلُّ تحاول جاهدًا، حتَّى تقع في المحظور لأوَّل مرَّةٍ.

2 – ستأخذ بعض الوقت قبل أن تعود إلى ارتكاب نفس الذَّنب، ولكن أغلب الظَّنِّ أنَّ معاناتك وعذابك سيقلَّان في هذه المرَّة؛ فلن تأخذ نفس الوقت في التَّبرير لنفسك، وإنَّما سيحدث ذلك سريعًا؛ لأنَّ الأمر هذه المرَّة سيكون (أسهل )!!

3 – في المرَّة الثَّالثة، التي يُتوَقَّع أن يكون الفاصل الزَّمنيُّ فيها أقلَّ هذه المرَّة، سيصل الذَّنب، الذي بدأ صعبًا، ثمَّ صار أسهل، إلى مرحلةٍ أخطر، وهي مرحلة (الاستساغة )، وتأمَّل معي عبقريَّة هذا اللَّفظ (مُستسَاغ )، أي لم يعد الأمر مُستغربًا، وصار أقرب إلى (العاديِّ )، خصوصًا وشعور (النُّفور ) يتبدَّد شيئًا فشيئًا.

4 – هنا يستمرُّ جبل الثَّلج في الذَّوبان!! وتستمرُّ النَّفس – الدَّنيئة بطبعها – في السُّقوط أكثر وأكثر، ويتحوَّل شعور (الاستساغة )، أي القبول مع بعض الاستغراب، إلى شعور (الأُلفة )، الذي يعني زوال هذا الاستغراب بالكامل. إنَّه شعور الاعتياد الرَّتيب، الذي لم يعد يشكِّل الذَّنب معه أيُّ مشكلةٍ داخل النَّفس.

5 – في هذه المرحلة، تزداد النَّفس تشوُّهًا إلى أقصى حدٍّ، لدرجة أنَّها (النَّفس ) لم تعد تكتفي باستساغة الذَّنب، وتقبُّله، والرِّضا به، بل إنَّها صارت تشعر له بلذَّة، وهي أخطر المراحل على الإطلاق؛ لأنَّها المرحلة التي تؤذن فيه شمس الفضيلة والقِيم داخل النَّفس على الزَّوال للأبد.

6 – وتكون النَّتيجة أنَّه (يُطبَع على القلب ) وتموت النَّخوة والشَّرف، وتصبح النَّفس جاهزةً لارتكاب كلِّ الشُّرور وكافَّة الرَّذائل.

7 – وتأتي المرحلة الأخيرة، وهي أقرب إلى الشَّراهة؛ حيث يكون ذلك الإنسان مستعدًّا لاختراع الشَّرِّ من العَدَم إن لم يجده؛ لأنَّه صار يقتات عليه، ولا يستطيع العيش بدونه!!

(ثانيًا ) 10 أفعال بمعنى (جاء )، كلٌّ منها له مدلولٌ مختلفٌ!!
لا أحبُّ الطَّنطنة واللهِ، ولا أهوى اصطناع المعجزات، وادِّعاء التَّميُّز والتَّفرُّد، ولكن أتمنَّى أن أعرف، هل هناك لغةٌ أخرى لديها هذا التَّنوُّع والثَّراء؟؟

قرأتُ هذه المعلومة على الانترنت، وأعجبتني كثيرًا، وأحببتُ أن تشاركوني المتعة، وأن تتعرَّفوا بعض ما تحويه لغتكم من كنوزٍ، لا أعتقد أنَّه تشاركها فيها لغةٌ حيَّةٌ أخرى على ظهر الأرض.
1 – أتى: جاء من مكانٍ قريبٍ.
2 – قَدِم: جاء من مكانٍ بعيدٍ.
3 – أقبَلَ: جاء راغبًا متحمِّسًا.
4 – حَضَرَ: جاء تلبيةً لدعوةٍ.
5 – زار: جاء بغرض البِرِّ والتَواصُل.
6 – طَرَقَ: جاء ليلا.
7 – غَشِي: جاء صدفةً، بلا اتِّفاقٍ.
8 – وافَى: جاء، والتقى بالشَّخص المقصود في الطَّريق.
9 – وَرَدَ: جاء بقصد التَّزوُّد بالماء.
10 – وَفَدَ: جاء مع جماعةٍ.
كلٌّ منها يفيد المجيء + معنى آخر لا يشاركه فيه سواه!!

(ثالثًا ) الأعمى في اللُّغة العربيَّة:
للأعمى في اللُّغة العربيَّة أربعة أسماء: الأعمى – الكفيف – الأكمه – الضَّرير .. فما الفرق بينها؟ وهل يؤدِّي أيٌّ منها نفس ما يؤدِّيه الآخر؛ فيكون تكرارًا بلا معنى ولا طائل؟!! لا طبعًا:

الأعمى: تُقَال للبصر، وللقلب.
الكفيف: لا تُقَال إلا لفاقد البَصَر، ولا شيء سواه.
الأكمه: مَن وُلِد أعمى.
الضَّرير: من وُلِد بصيرًا، ثُمَّ أُصِيب – في أيِّ مرحلةٍ من حياته، ولأيِّ سببٍ – بالعمى.

(رابعًا ) دخل الشِّتا وقفل البيبان ع البيوت .. العربيَّة بين إبداع العامِّيَّة وتفرُّد الفصحى:
في مرحلة الدِّراسة الجامعيَّة، كنت معجبًا جدًّا ومولَّهًا بالشِّعر العربيِّ، وخصوصًا العموديَّ، وكانت لي محاولاتٌ كثيرةٌ لكتابة الشِّعر، كما كانت لي محاولاتٌ أيضًا لكتابة القصَّة القصيرة، والتي كنت أحبُّها في هذه الفترة إلى حدِّ العشق. ولكن لأنَّني حاولتُ أن أكون شاعرًا، وحاولتُ أن أكون – في نفس الوقت – كاتبًا قصصيًّا؛ فقد كانت النَّتيجة الطَّبيعيَّة أنَّني انتهيتُ إلى أن أكون نصف شاعر / نصف قصَّاص، أي إلى لا شيء في الحقيقة!!

إلا أنَّ إعجابي بالشِّعر العربيِّ لم يكن مقصورًا على الشِّعر العموديِّ فقط، وإنَّما كنتُ من المعجبِين غاية الإعجاب برباعيَّات صلاح جاهين، وبأشعار أحمد فؤاد نجم، والتي كان يغنِّيها الشَّيخ إمام.

وتمكَّنتُ بواسطة (مكتبة الأسرة )، التي تُعَدُّ أيقونة عصر مبارك، وأهمّ إنجازاته على الإطلاق في رأيي، من تكوين مكتبةٍ ضخمةٍ وعامرةٍ بالكتب.

وكان من ضمن الكتب التي اقتنيتُها آنئذٍ رباعيَّات صلاح جاهين، ورغم فرحتي الغامرة باقتنائها، وحفظي لأغلب رباعيَّاتها، إلا أنَّه لم يعجبني شيءٌ في الرُّباعيَّات قدر ما أعجبني تقديم (يحيى حقِّي ) المذهل لها.

كنتُ أعود كلَّ فترةٍ إلى الكتاب؛ لأعيد قراءة تقديم (يحيى حقِّي ) العبقريّ، وأضحك!! نعم واللهِ أضحك من فرط بلاغة أسلوب حقِّي وطرافته وسلاسته.

اقرءوا، واستمتعوا معي، ببعض ما ورد في تلك المقدِّمة:
الرُّباعيَّات هي أحبُّ قوالب الشعر لديَّ؛ لأنَّها تُعين على نَفي الفضول، وعلى التَّحرُّر من أسر القافية؛ فتجيء كلُّ رباعيَّة بمثابة الومضة المتألِّقة، قيمته في اختصاره وصقله، لا في كبر حجمه، وقد يتوهَّم المتعجِّل أنَّ أضعف بيت في الرُّباعيَّة هو الثَّالث غير المقفَّى، ولكنَّه في نظري عمادها؛ ففي البيتَين الأوَّل والثَّاني عرضٌ لأوَّليَّات الموقف، وفي البيت الثَّالث ارتفاع مفاجئ إلى قمَّة قد تبدو – للنَّظرة الأولى – أنَّها جانبيَّة، ليُتبِعه فورًا من شاهق كأنَّه طعنةٌ من خنجر يختم بها البيت الرَّابع فصول المأساة. البيت الرَّابع هو دَقَّة المطرقة على السِّندان، بعد أن كانت مرتفعة في الهواء.

انظر إلى الرُّباعيَّة التَّالية:
دخل الشتا وقفل البيبان ع البيوت
وجعل شعاع الشمس خيط عنكبوت
وحاجات كتير بتموت في ليل الشتا
لكن حاجات أكتر بترفض تموت
عجبي

في البيتَين الأوَّل والثَّاني عَرْضٌ للأوَّليَّات، بينما البيت الرَّابع دَقَّة المطرقة، لم يتحقَّق أثره إلا لأنَّ البيت الثَّالث (الخارج عن الرَّوىِّ ) قد خَدَعَنَا بتأكيده أنَّ أشياء كثيرة تموت في الشتاء، فإذا بنا نُفَاجَأ – كأنَّنا نسقُطُ من شاهقٍ – أنَّ أشياء أكثر ترفض أن تموت في الشتاء!

أمَّا أنا فأقول: إذا كان هذا إبداع العامِّيَّة، وبلاغة العامِّيَّة، ومتعة العامِّيَّة، فما أدراكم بالفصحى!!
هذا أقلُّ القليل، وما خفي كان أعظم!!
إنَّها اللُّغة العربيَّة يا سادة!!
فافتخروا بها، وعوِّدوا أولادكم أن يُحِبُّوها، وأن يُتقِنوها، وأن يفتخروا بها أيضًا.