من تناقضات البلاغة .. التَّورية نموذجًا!!

يسري سلال 07 يناير 2020 | 10:17 م قضايا تعليميَّة 10195 مشاهدة

قبل أن تقرأ ….

– إذا لم يعجبك كلامي، أو اختلفت معي؛ فهوِّن على نفسك أرجوك، ولا داعي للحدَّة أو التَّطاوُل، ولا ترهقني من أمري عُسرًا، وتفضَّل مشكورًا بحذفي من قائمة أصدقائك، وكفى الله المؤمنِين القتال.

– سامحوني على طول المقال، وركِّزوا أثناء قراءته، إن صبرتُم حتَّى النِّهاية، ولاحظوا – بارَكَ الله فيكم – أنَّ المقال ينقسم إلى أربعة أقسامٍ:

أوَّلا: عندما تجتمع قرينتان على كلا المعنيَين

ثانيًا: الاستخفاف بالعقول

ثالثًا: عندما يكون المعنيان واردَين سواءً بسواء (ولكنَّهم يحبُّون التَّقعُّر!! )

رابعًا: الأمثلة التي تصلح للاستشهاد والشَّرح، قد لا تصلح بالضَّرورة للأسئلة والامتحانات

أخيرًا: وبعد كلِّ هذا النَّقد، هذا إقرارٌ منِّي

والآن إلى نصِّ المقال ….

يقول البلاغيُّون إنَّ التَّورية أن يأتي الشَّاعر بكلمةٍ تحتمل معنيَين:

1 – معنى قريب (غير مقصود ).

2 – ومعنى بعيد (وهو المقصود ).

ويقولون إنَّ المعنى القريب (غير المقصود ) لا بدَّ له من قرينةٍ.

ومع أنَّ هذا الكلام يصدق حينًا، إلا أنَّه لا يصدق في أحيانٍ كثيرةٍ، ويكتنف هذا الكلام الكثير من المغالطات:

أوَّلا: عندما تجتمع قرينتان على كلا المعنيَين:

أ – ذكرتُ والكأس في كفِّي لياليَكُم ……. فالكأسُ في [راحةٍ ] والقلب في تعبِ

يقولون إنَّ المعنى القريب (غير المقصود ) هو الاسترخاء، والقرينة هي كلمة (تعب ) بعدها، بينما المعنى البعيد (المقصود ) هو كفُّ اليد.

وفي الحقيقة فإنَّ في البيت قرينتَين:

– (تعب ): قرينة على معنى (الاسترخاء ).

– وكلمة (الكأس ): قرينة على معنى (كفِّ اليد )؛ لأنَّ المفترض عقلا أنَّ (الكأس ) يُمسَك بـ (كفِّ اليد ).

فلماذا أخذوا بالقرينة الأولى، وتجاهلوا الثَّانية، رغم أنَّ كلمة القرينة الثَّانية (كلمة الكأس ) هي الأقرب للَّفظ الذي يُفترَض أنَّ به تورية (كلمة راحة )؟!!

ب – وروميَّةٌ يوما دعتني لوصلها ………. ولم أكُ من وصل الغواني بمحرومِ

فقالت: فدتك النَّفسُ، ما الأصل؟ إنَّني …… أرومُ وصالا، فقلتُ لها: [رومي ]

ادَّعوا أنَّ المعنى القريب (غير المقصود ) هو أنتمي إلى بلاد الرُّوم، بينما المعنى البعيد (المقصود ) هو اطلبي، والقرينة هي سؤالها (ما الأصل؟ ).

وفي الحقيقة فإنَّ في البيت – كذلك – قرينتَين:

– عبارة (ما الأصل؟ ) في الشَّطر الأوَّل من البيت: قرينة على معنى (أنتمي إلى بلاد الرُّوم ).

– و (أرومُ ): قرينة على معنى (اطلبي ).

فبأيِّ منطقٍ اعترفوا بالقرينة الأولى، ولم يعترفوا بالثَّانية؛ ليقرِّروا بيقينٍ يُحسَدون عليه أنَّ المعنى القريب (غير المقصود ) هو أنتمي إلى بلاد الرُّوم، والمعنى البعيد (المقصود ) هو اطلبي؟!!

وأرجو أن تلاحظوا أنَّ القرينة (المستبعدة ) هي الأقرب مكانيًّا من الكلمة التي تحتوي على توريةٍ (رومي )!!

ج – أيها المُعرِضُ عنَّا ……. حسبُكَ الله [تعالى ]

افترض البلاغيُّون أنَّ كلمة (تعالى ) تحتمل معنيَين، وعلى كلِّ معنى قرينة:

– تنزَّه الله عن النَّقص: والقرينة على هذا المعنى المستبعد غير المقصود (في زعمهم ) هو مجاورته للفظ الجلالة.

– أقبِل: والقرينة التي تدلُّ عليه هو كلمة (المُعرِض ) بمعنى المبتعد، الواردة بصدر البيت.

فلماذا أقرُّوا بالقرينة الأولى، ولم يقرُّوا بالثَّانية؟!! ولماذا لا يكون المعنى القريب (غير المقصود ) هو أقبِل (ارتكانًا على ورود كلمة المُعرِض في بداية البيت )، والمعنى البعيد (المقصود ) هو تنزَّه الله عن النَّقص.

فإذا قلتَ لي: لأنَّ القرينة الأولى (لفظ الجلالة ) أقرب من الثَّانية، فسأقول لك: ولماذا لم نستند إلى نفس المنطق (منطق القرب المكانيِّ ) في البيت الأوَل، وفي البيت الثَّاني؟!!

د – أنت فخَّار بدنياك ……. ولا بدَّ لـ [الفخَّار ] أن يتكسَّر

– القرينة الأولى – التي استندوا إليها – كلمة (يتكسَّر )، التي تعنى عندهم أنَّ المعنى القريب غير المقصود هو (مادَّة الفخَّار التي تُصنَع منها الأواني ).

– ومنها استنتجوا أيضًا أنَّ (صيغة المبالغة الدَّالَّة على كثرة الفخر )، هي المعنى غير المقصود، رغم أنَّ الأدعى الاعتداد بكلمة (فخَّار ) الأولى قرينةً على هذا المعنى المستبعد.

وبالتَّالي تجتمع قرينتان على المعنيَين، ولكنَّهم أهملوا إحداهما، دون أن يقدِّموا لنا سببًا مقنعًا.

ثانيًا: الاستخفاف بالعقول:

أ – عضَّنا الدَّهرُ بنابِه ……. ليت ما حلَّ [بنابه ]

قالوا: التَّورية في كلمة (بنابه )؛ فالمعني القريب (النَّاب، وهو السِّنُّ المدبَّب )، والقرينة (عضَّنا الدَّهر )، أمَّا المعني البعيد المقصود فهو (الجارُّ والمجرور بنا + الجارُ والمجرور به ).

ولا أرى ذلك إلا استظرافًا، واستخفافًا بالعقول!!

أوَّلا: أقرُّ بمهارة الشَّاعر في الجمع بنفس البيت بين كلمة (بنابه )، وهي المكوَّنة من باء الجرِّ + كلمة (نابه ) أي سنِّه، و (بنا ) (به ) في آخر البيت، وهي مفارقة، ولعبة لغويَّة لا بأس بها.

أمَّا تحميل الأمر ما لا يحتمله، وادِّعاء وجود معنيَين، وبقيَّة هذا الكلام الهزليِّ، فلا أصل له؛ إذ كيف يُتصَوَّر أن يكون المعنى الأوَّل واردًا أصلا، وهو (بسنِّه )؟!!

المنطق، وقواعد النَّحو ينفيان ها المعنى تمامًا، وإنَّما المعنى الوحيد هو (بِنا ) (بِه )، والمعنى: ليت ما حلَّ بنا يحلُّ به، وسبب عدم منطقيَّة المعنى الأوَّل أنَّ الجملة – في هذا الحالة – ستخلو من خبر (ليت )، انظروا:

– المعنى الوحيد المنطقيُّ: ليت ما حلَّ بنا (ثمَّ مسافة ) به (أي: ليت ما حلَّ بنا يحلُّ به ).

وهنا: شبه الجملة (به ) خبر (ليت ).

– أمَّا المعنى الهزليُّ الذي افتكسوه افتكاسًا (وعدُّوه تعسُّفًا المعنى القريب غير المقصود ) فهو (بسنِّه )، وسبب هزليَّة هذا الفرض، أنَّ جملة (حلَّ بنابه – أي بسنِّه كما ادَّعوا ) هي جملة صلة الموصول، فأين خبر (ليت )؟!!

وهكذا يجب أن نقول للطُّلَّاب إنَّ مهارة الشَّاعر هنا تتجلَّى في الجمع بين (بنابه ) الأولى، المكوَّنة من: باء الجرِّ + ناب أي سِنّ + هاء الغيبة، و (بنا به ) الثَّانية المكوَّنة من: شبه الجملة (بنا ) + شبه الجملة (به ).

ثمَّ نبيِّن هنا استحالة إرادة المعنى الأوَّل؛ لاصطدامه بقواعد النَّحو.

لا أن نفترض افتراضات ساذجة يأباها العقل والمنطق.

ملاحظة:

عدم ترك مسافة بين (بنا ) و (به ) هو تدليس سخيف، هدفه الوحيد هو تمرير التَّورية المزعومة قسرًا!! وهذا يذكِّرني بسخافة (أكلتُ دجاجتان )، التي تجري على الألسنة بوصفها لغزًا نحويًّا زورًا وبهتانا، زاعمِين بأنَّ أصلها: أكلتُ (دجاج ) (تان )، ضاربِين بالمنطق عُرض الحائط، وغير مبالِين بالسُّؤال المشروع: إذا كنتَ تقصد إضافة (دجاج ) إلى شخصٍ اسمه (تان )، فلماذا ألصقت المضاف إليه بالمضاف؟!!

ب – رُوِي عن شريح أنه خرج من عند زياد، وقد حضره الموت، فقيل له: كيف تركت الأمير؟ قال: تركته [يأمر وينهى ].

وزعم البلاغيُّون أنَّ (يأمر وينهى ) تتضمَّن تورية؛ حيث إنَّ معناها القريب غير المقصود، هو (الأمر والنهي )، أمَّا معناها البعيد المقصود فهو (الأمر بالصَّبر، والنَّهي عن البكاء )!!

والمطلوب منَّا أن نبتلع هذه التَّورية ابتلاعًا، وأن نتداولها – في غيبة العقل – صامتِين، ليس هذا فقط، وإنَّما أن ندرِّسها لطلَّابنا أيضًا.

فبالله عليك، أين التَّورية هنا؟!! وكيف يكون المعنى المستبعد (الأمر والنَّهي )، بينما المعنى المقصود هو (الأمر والنَّهي ) أيضًا!!

إنَّ هذه العبارة في الحقيقة لا تتضمَّن توريةً، وإنَّما تتضمَّن إيجازًا؛ إذ قال: (تركته يأمر وينهى )، والمقصود: (تركته يأمر بالصَّبر، وينهى عن البكاء ).

ج – لله إنَّ الشَّهد يوم فراقهم ……. ما لذَّ لي فـ [الصَّبر ] كيف يطيبُ؟!

قالوا إنَّ التَّورية في كلمة (الصَّبر )؛ فالمعنى القريب (نبات الصَّبَّار )، والقرينة كلمة (الشَّهد )، أمَّا المعنى البعيد فهو (الصَّبر والعزاء )، وهو المراد.

وأنا أستحلفكم بمَن فضَّلنا على بقيَّة الأجناس بالعقل، أن تجيبوني:

إذا ذكرتُ هذا البيت لأيِّ عربيٍّ على ظهر الأرض، لم يسبق له أن سمعه، فهل سيتوارد على ذهنه معنيان لـ (الصَّبر ) فعلا؟!! وهل يمكن لأيِّ إنسانٍ بالغٍ عاقلٍ أن يتصوَّر أنَّ المراد بـ (الصَّبر ) هو نبات الصَّبَّار؟!! وما العلاقة بين (الصَّبر ) و (الصَّبَّار ) ليفترضه العقل؟!!

إنَّ افتراض معنى (الصَّبَّار ) غصبًا وقهرًا لـ (الصَّبر ) – لمجرَّد التَّصديق بأنَّ هذه اللَّفظة تحتمل معنيَين – ثمَّ الادِّعاء بأنَّ هذا المعنى المغتصب (غير الموجود أساسًا ) غير مقصود، بينما المعنى الآخر (الذي هو المعنى الوحيد أصلا ) هو المقصود .. كلُّ ذلك سخرية من العقل!!

(الصَّبر ) هو (الصَّبر )، وللكلمة معنى واحد لا يتوارد غيره إلى الذِّهن، مهما حاولوا إقناعنا لألف عامٍ!!

ثالثًا: عندما يكون المعنيان واردَين سواءً بسواء (ولكنَّهم يحبُّون التَّقعُّر!! ):

أ – قلت لها لمَّا تثنَّت ……. كقضيب الخيزرانِ

ما الذي يثنيكِ؟ قالت: …… ليس لي والله [ثانِ ]

إذا كنتَ حضرتك ترى أنَّ لـ (ثانِ ) معنيَين، فإنَّني أوافقك الرَّأي تمامًا.

ولكنك إذا صادرتَ على العقول؛ فقلتَ إنَّ المعنى القريب غير المقصود هو (اسم الفاعل من ثنى )، بينما المعنى البعيد المقصود هو (شبيه )، فإنَّني سأقول لك: بدلا من أن تعطيني دليلا على ذلك المعنى القريب غير المقصود (وهو الفعل يثنيك )، أعطني دليلا عقليًّا ومنطقيًّا واحدًا ينفي المعنى الثَّاني!!

لماذا لا يكون قصد المتحدِّث العكس؟!!

الجمال هنا ليس له علاقة بأيٍّ من المعنيَين قريبٍ وأيّهما بعيد، وإنَّما الجمال هو استخدام كلمةٍ تحتمل معنيَين، وأنَّ كلَّ مستمعٍ ومتذوِّقٍ سيفهمها على الوجه الذي يشاء، وكلا الوجهَين صحيحان!!

ب – وقالت: رُح بربِّك من أمامي ……. فقلتُ لها: بربِّكِ أنتِ [روحي ]

من أجمل الأبيات، وعبقريَّة الشَّاعر لا تكمن في افتراض وجود معنى قريبٍ غير مقصودٍ، زعموا أنَّه (فعل الأمر بمعنى اذهبي )، ومعنى بعيد هو المقصود (كلمة روح مضافةً إلى ياء المتكلِّم )، وإنَّما عبقريَّته جواز الوجهَين – لنفس اللَّفظ – سواءً بسواء، وأيُّ كلامٍ هنا عن معنى مقصود، وآخر غير مقصود، هو من قبيل التَّعسُّف والادِّعاء.

وليس معنى ورود قرينةٍ – في زعمهم – هي (رُح )، نفي إرادة معنى (اذهبي ) بأيِّ حالٍ من الأخوال، وإنَّما هذا تزيُّد، لا يؤيِّده العقل والمنطق.

ج – ذهبنا نشكو إلى الحاكم فوجدناه قد [قضى ]

لماذا لا يكون المعنى (حكم )، وليس ما زعموه من أنَّ المعنى البعيد المقصود هو (مات )؟

لماذا لا يكون المعنى: …. فوجدناه قد حكم في الأمر؟!!

أعطوني دليلا عقليًّا واحدًا لأقتنع!!

طبعًا لا أنفي إرادة الفعل (مات )؛ فهو واردٌ بالتَّأكيد، ولكنَّ هذا لا ينفي أبدًا إرادة المعنى الأصليِّ.

لاحظوا أنَّ 99.9% من الطَّلبة لا يدركون أصلا أنَّ من معاني (قضى ): مات، ومع ذلك علينا أن نحشرها حشرًا في حلوقهم!!

د – شاهدت آثار المصريِّين, فهل رأيت شيئًا من [القصور ]؟

قد يكون القصد من (القصور ) التَّقصير طبعًا، ولكن من التَّعسُّف غير المقبول الجزم بأنَّ هذا المعنى هو المعنى الوحيد المقصود؛ فقد يكون ما يظنُّونه معنى قريبًا غير مقصود (جمع قصر )، هو المقصود أصلا، ولا دليل على نفي إرادة المعنى الأصليِّ الذي عدُّوه مستبعدًا.

هـ – حين لقيتُكَ زالت متاعبي، وعرفتُ فضل [الرَّاحة ]

لماذا، وبأيِّ منطقٍ، وبأيِّ دليلٍ، لا يكون المعنى المقصود هو مضاد التَّعب؟

لماذا عليَّ أن أسلِّم بأنَّ (الاسترخاء ) هو المعنى البعيد (غير المقصود )، بينما كف اليد (والمقصود: العطاء )، هو المعنى البعيد و (الوحيد ) المقصود كما زعموا؟

لا يكفي أن تعطيني قرينة على أنَّ معنى ما هو المقصود، وبدلا من ذلك، أعطني قرينة يقبلها المنطق على عدم جواز المعنى الآخر!!

لماذا لا نكتفي بالقول إنَّ مهارة الشَّاعر تتجسَّد في استخدام لفظٍ له معنيان، دون ادِّعاءٍ بأنَّ أحدهما (وحده ) هو الصَّحيح، وأنَّ الآخر (حتمًا ) غير مقصود؟!!

و – أيُّها المُعرِض عنَّا ……. حسبُكَ الله [تعالى ]

كونوا منصفِين، وقولوا إنَّ هذا البيت يحتمل المعنيَين:

– حسبك الله (سبحانه وتعالى ).

– حسبك الله (أقبِلْ ).

ودعكم من (اختراع ) القريب غير المقصود، والبعيد المقصود، وإلا هاتوا لنا الشَّاعر ليقرِّر بنفسه أنَّه قصد الثَّانية لا الأولى، ولا تكونوا ملكيِّين أكثر من الملك!!

لا شكَّ أنَّ استخدام كلمة (تعالى ) في موضعها بديع؛ لا لافتراض وجود معنى قريبٍ وغير قريبٍ، وإنَّما الإبداع هنا في جواز المعنيَين.

ز – جودوا لنسجع بالمدي ……. ح على علاكم سرمدا

فالطير أحسن ما تغرِّ د ………. عندما يقع [الندى ]

– وما الشِّعر إلا روضة راق حسنها ……. ولا سيما إن كان قد وقع [الندى ]

أتفهَّم طبعًا أنَّ لكلمة (النَّدى ) – في المثالَين – معنيَين: قطرات النَّدى، والعطاء والكرم.

بل وأوافق القائلِين بأنَّ المعنى المقصود في البيتَين هو الثَّاني، ولكنَّ الفكرة التي أتمنَّى أن تصل إليكم، أنَّ هذا مجرّد أمرٍ نسبيٍّ، قد يختلف من شخصٍ إلى آخر، ويعود – في النِّهاية – إلى ذائقة المتلقِّي، وأنَّه ، وإن كان معنى العطاء (في ظنِّي وظنِّكم ) هو المقصود، فلا يوجد ما يمنع أن يكون المعنى الأوَّل هو المقصود أيضًا.

وأنَّه من غير المعقول – إذن – أن يُحاسَب الطَّالب المسكين إذا أجاب بأنَّ معنى (قطرات النَّدى ) هو المقصود؛ فهذا ظلمٌ شنيع.

هو تذوَّقها هكذا، وأحسَّها هكذا، والمعنيان واردان وجائزان؟، ولا يوجد أيُّ مانعٍ عقليٍّ ينفي – على وجه اليقين – إرادة المعنى الأوَّل، فكيف يُعاقَب الطَّالب؟!! وبأيِّ ذنبٍ؟؟

في رأيي، فإنَّه يكفي جدًّا أنَّ الطَّالب قد أدرك بذائقته أنَّ لكلمة (النَّدى ) هنا معنيَين، فإن أجاب بذلك، واتَّضح أنَّه يدرك بثقافته العامَّة، أنَّ (الندى ) اسمٌ من أسماء الكرم في العربيَّة، فإنَّه يصبح جديرًا بالدَّرجة الكاملة، سواء أظنَّ بأنَّ معنى (العطاء ) هو البعيد غير المقصود، أو حتَّى هو القريب غير المقصود.

هل هناك مانعٌ شرعيٌّ أو دينيٌّ أو منطقيٌّ يمنع ذلك لتعاقبه؟!!

ح – جبرتني رؤية الأطلال وخاطبتُها وكان دمعي [سائلا ]

دعكم من القريب والبعيد وهذه الألاعيب:

(سائلا ): يُحتمَل أن تكون من (سأل )، ويُحتمَل أن تكون من (سال ) .. هكذا بكلِّ بساطةٍ، وبلا تقعُّر ولا تلفيقٍ!!

ط – إذا كنتَ شريفًا فاسعَ ولا تعتمد علي [جدِّك ].

القول بأنَّ المعنى المقصود هو (الاجتهاد )، والمعنى المستبعد هو (أبو الأب )، ليس له ما يبرِّره من العقل والمنطق.

ما المشكلة لو ظنَّ المستمع (أو الطَّالب ) العكس، هل هذا حرام؟!!

رابعًا: الأمثلة التي تصلح للاستشهاد والشَّرح، قد لا تصلح بالضَّرورة للأسئلة والامتحانات:

قد يلزم لإدراك التَّورية ورصدها معلوماتٌ معيَّنة، إن لم تتوفَّر يصبح إدراك التَّورية أمرًا عبثيًّا ومستحيلا، فمثلا:

أ – من العبث أن تسأل الطَّالب عن التَّورية هنا:

قال سراج الدِّين الورَّاق:

أصون أديم وجهي عن أناس ……. لقاء الموت عندهم الأديبُ

وربُّ الشِّعر عندهم بغيضٌ ……… ولو وافى به لهُمُ [حبيبُ ]

إذا لم يكن يعلم – وهو حتمًا لا يعلم – أنَّه يقصد – أوَّلا – الشَّاعر (أبا تمَّام )، وأنَّ اسم (أبي تمَّامٍ ) – ثانيًا – هو (حبيب بن أوسٍ الطَّائيِّ ).

ب – كيف يدرك الطَّالب التَّورية في قول الشَّاعر:

وما برحت مصر أحقَّ بـ [يوسف ] ……. من الشَّام، لكنَّ الحظوظ تُقَسَّمُ

إذا كان لا يعرف – وهو لا يعرف طبعًا – أنَّ (صلاح الدِّين الأيُّوبيِّ ) كان اسمه (يوسف )؟!!

هنا أمامك خياران:

الأوَّل: أن تسأله عن التَّورية، رغم علمك اليقينيِّ أنَّه لا يعرف شيئًا عن تسمية (صلاح الدِّين ) بهذا الاسم، وبالتَّالي يفقد السُّؤال معناه تمامًا.

والثَّاني: أن تخبره مبدئيًّا عن هذه المعلومة؛ فتفقد التَّورية معناها وسحرها، وتتحوَّل – بالتَّالي – إلى عمليَّة تلقينٍ تجرِّدها من أهمِّ مميِّزاتها، وهي إعمال العقل وجذب الانتباه!!

ج – وطني لو شُغِلتُ بالخلد عنه ……. نازعتني إليه في الخلد نفسي

وهفا بالفؤاد في سلسبيلٍ ……………. ظمأ لـ [السَّواد ] من عين شمسِ

ما جدوى السُّؤال عن التَّورية هنا إذا كان من المستحيل تقريبًا أن يكون المسئول على علمٍ بأنَّ أحد معنيَي (سواد ) هو (الضَّواحي )؟؟!!

د – لحظت من وجنتها شامة ……. فابتسمت تعجب من [خالي ]

قالت: قفوا واستمعوا ما جرى ……. قد هام عمِّي الشَّيخ في [خالي ]

هل يوجد عربيٌّ واحدٌ يعرف بأنَّ (خالي ) معناها (شامة )؛ ليدرك التَّورية ويتذوَّقها في الموضعَين؟؟!!

أخيرًا: وبعد كلِّ هذا النَّقد، أقرُّ بما يلي:

أ – اشتدَّ حزن الرِّياض علي الرَّبيع وجمدت [عيون ] الأرض

هذا توظيفٌ عبقريٌّ للتَّورية؛ حيث كلمة (عيون ) تحتمل معنيَين:

المعنى الأوَّل: أداة الرُّؤية.

والمعنى الثَّاني: عيون الأرض.

والأجمل من وجود معنيَين للكلمة، وجود مانعٍ عقليٍّ ينفي أحدهما؛ فالمعنى المقصود هو الثَّاني (عيون الأرض )؛ حيث:

– إرادة معنى العيون (أداة الرُّؤية )، تعني أنَّ العيون قد جمدت عن البكاء، وهذا يتعارض مع المعنى المذكور في الشَّطر الأوَّل، والذي صرَّح فيه بشدَّة الحزن، والتي تقتضي – عقلا – البكاء، لا الجمود عن البكاء.

– وعلى العكس من ذلك، فإنَّ جمود (عيون الأرض )، تعني توقُّفها عن النَّبع بالماء، وهذا قد يكون تعبيرًا عن (شدَّة الحزن ).

ب – كلُّ مواضع الشِّعر العربيِّ التي وظَّفت (نهر ) و (سائل )، كانت بديعةً واستثنائيَّة؛ حيث:

– (النَّهر ) دائما يلعب على ثنائيَّة (مجرى الماء – الزَّجر )، في لعبةٍ لفظيَّةٍ رائعةٍ تداعب العقل وتستثيره وتتحدَّاه.

– و (السَّائل ) تعزف دائمًا على وتر المفارقة بين (مَن يسأل ) و (ما يسيل )، وهي ثنائيَّة خلَّاقةٌ ومثيرةٌ أيضًا.

ومن ذلك:

1 – وكرِّر على سمعي أحاديثَ نيلهــــا ……. فقد ردَّت الأمواج [سائله ] [نهرا ]

2 – رِفقًا بِخِلٍّ ناصحٍ أبليتَهُ صَدًّا وهجرا ……. وافاك [سائل ] دمعه، فرددته في الحال [نهرا ]

ج – من أروع الأمثلة على التَّورية – برأيي – في الشِّعر العربيِّ قاطبةً، بيتا العملاقَين: (أحمد شوقي )، و (حافظ إبراهيم )، وأعتبرهما الأكثر طرافةً على الإطلاق