أستطيع أن أتخيَّل ما حدث في هذه اللَّحظات المرعبة!!

يسري سلال 21 أكتوبر 2018 | 11:58 م عامٌّ 1659 مشاهدة

أستطيع أن أتخيَّل ما حدث في هذه اللَّحظات المرعبة ……
ثلاثة عصافير خضراء صغيرة، لم ينبت ريشها بعد: (محمَّد ) 5 سنوات، و (أسامة ) 4

سنوات، و (فارس ) عامان، داخل غرفةٍ موحشةٍ مظلمةٍ خالية حتَّى من سرير أو مرتبة،

لا يفهمون سبب وجودهم فيها، ولماذا هم وحدهم دون بقيَّة أطفال العالم مكتوبٌ عليهم أن

يُحبَسوا فيها يوميًّا من الخامسة عصرًا، وحتَّى ظهر اليوم التَّالي.
يومها حبستهم (أمُّهم ) كالعادة، وأحكمت إغلاق الغرفة المظلمة، وتركتهم يتخبَّطون فيها

بلا هدى، ويبكون بالتَّأكيد، قبل أن تتوجَّه إلى عملها المعتاد بأحد الملاهي اللّيليَّة.
بحث (محمَّد ) ربَّما عن أيِّ شيءٍ يضيء به ظلام الغرفة لأخويه المرعوبَين واللَّذين لا

يكفَّان عن الصُّراخ، حتَّى عثر فيما يبدو على (ولاعة ) ، فكَّر الصِّغار كيف يحتفظون

بالضَّوء لأطول فترةٍ ممكنةٍ، وهدتهم عقولهم الصَّغيرة إلى إشعال بعض الخرق البالية

التي لا يوجد بالغرفة سواها.
فرحوا بالضَّوء، وتبدَّلت صرخاتهم إلى ضحكاتٍ بريئةٍ صافيةٍ، ولم تكد تمرّ لحظات

حتَّى تبدَّد الضَّوء، وملأ الدُّخان أرجاء الغرفة حتَّى أعمى أبصارهم، وبمرور الوقت

تردَّدت صرخاتهم الملتاعة. كانوا يسعلون بلا توقُّف، والأنفاس تتلاشى تدريجيًّا من

الغرفة، ويحلُّ محلَّها دخان أسود كريه ملعون، يغشى أجهزتهم التَّنفُّسيَّة، ويكتم أنفاسهم

، ويسحب أرواحهم بكلِّ قسوةٍ من أجسادهم الغضَّة البريئة الضَّعيفة.
واجهوا الألم والموت وحدهم؛ فلا أبَّ، ولا أمَّ، ولا أحد من الجيران يعبأ بهم وبصرخاتهم.
حتَّى من يعلمون بتلك الجريمة اليوميَّة المتكرِّرة، لم تتحرَّك ضمائرهم ليبلغوا الشُّرطة

عن معاناة هؤلاء الأطفال، أو يضربوا على أيدي أمِّهم التي تُعَدُّ وبامتياز (مجرمة القرن ) .
وأنا عندما أسمِّيها (جريمة القرن ) أكون قد أصبت كبد الحقيقة؛ فهي ليست مجرَّد

جريمة إهمال متعمَّد، وليست حتَّى مجرَّد جريمة قتل، وإنما لا تفتكم التَّفاصيل المخيفة

والجرائم المركَّبة المتمثِّلة فيما يلي:
أوَّلا:

أنجبتهم المتَّهمة البغيضة من الحرام.
ثانيا:

لم تمارس الرذيلة لمرَّة واحدة، وإنَّما أنجبت ثلاثتهم من ثلاثة رجال مختلفين، وما خفي

كان أعظم، ومن الضروريِّ أن تستجوبها المباحث جيِّدًا، وأن تنقِّب في ماضيها الملوَّث؛

فلا أستبعد أنَّها ليست المرَّة الأولى التي تقتل فيها أبناءها، أو تتسبَّب في موتهم على الأقلِّ.
ثالثا:

ما مارسته في حقِّ هؤلاء الشُّهداء الصِّغار من تعذيب بدنيٍّ ونفسيٍّ وحشيِّ، أبرز مظاهره

حبسهم يوميًّا في هذا القبر المظلم لكلِّ هذه الساعات.
رابعا:

تتويجَا لكلِّ تلك الجرائم التي لا يتصوَّرها عقل بشريٌّ سويٌّ، ألقت جثث أطفالها للكلاب.
ثلاث زهراتٍ جاءت بهم أمُّهم (التي لا تحمل من الأمومة إلا الاسم ) من ثلاثة رجالٍ مختلفين، وبلا زواج.
كانت تتعرَّف على الواحد منهم، وتقضي معه وقتًا لطيفًا، بلا أيِّ وازعٍ من ضميرٍ أو دينٍ، وتكون ثمرة هذا الوقت الحرام في كلِّ مرَّةٍ طفلا بريئًا يأتي إلى الدُّنيا يتيم الأبِّ والأمِّ.
ثلاثة أشقَّاء صغار، من ثلاثة (آباء ) مختلفين، شكَّلوا معًا فريقًا تعيسًا دخل التَّاريخ بصفته ضحيَّةً لأبشع جريمةٍ عرفتها البشريَّة في تاريخها.
وتتمزَّق نفسي وأنا أتخيَّل معاناتهم في تلك اللَّحظات الأخيرة، قبل أن ترتقي أرواحهم الطَّاهرة إلى الجنَّة، والتَّساؤلات تفتك بي:
1 – هل كانوا جوعى ومعداتهم فارغة؟ وهل كانت تلك المجرمة تترك لهم ما يسدُّ الرَّمق وما يطفئ العطش؟
2 – أيُّ عصفورٍ فيهم حلَّق إلى الجنَّة أوَّلا؟ وأيّهم ظلَّ يعاني حتَّى آخر لحظةٍ؟
3 – كيف حاول (محمَّد ) و (أسامة ) إنقاذ (فارس ) من مصيره المشئوم؟ وأيُّهم احتضن أخوته وحاول جاهدًا تخفيف آلامهم؟
4 – بمَ كانوا يصرخون؟ وهل كانوا يتوسَّلون بلا فائدة؟ هل طرقوا الباب؟
5 – كيف احتملت أجسادهم النَّحيلة المرهقة كلَّ تلك الآلام؟
6 – كيف كانوا يقضون حاجتهم في هذا السِّجن المظلم؟ ومَن الذي كان ينظِّف الصَّغير؟
7 – هل كانوا يعرفون الحلوى؟ أم كانوا يرونها فقط في أيدي أقرانهم؟ وهل كان (فارس ) الصَّغير يقتسم (كيس الشيبسي ) مع أخويه؟
8 – عندما عادت الأمُّ في اليوم التَّالي، واكتشفت المأساة المريعة، لماذا لم تكرمهم وتأخذهم حتَّى ولو إلى الصَّحراء وتدفنهم في التُّراب؛ فتكون قد حافظت على حرمة أجسادهم من ناحيةٍ، وضمنت الهروب – من ناحيةٍ أخرى – من المسئوليَّة الجنائيَّة؟ لماذا بخلت عليهم بقبرٍ يواري أجسادهم الطَّاهرة، وقرَّرت بدلا من ذلك أن ترمي جثثهم للكلاب؟
9 – لماذا أنظر في عيون الأمِّ وهي تسرد اعترافاتها المذهلة فلا أجد ذرَّةً من شفقةٍ أو رحمةٍ أو حزن على الصِّغار وما لاقوه من أهوالٍ يشيب لها الولدان؟ لا أتحدَّث هنا عن رحمة وشفقة الأمِّ، وإنَّما أتكلَّم عن المشاعر الإنسانيَّة المجرَّدة التي جعلت الملايين يبكون، بينما الأمُّ لم يرمش لها جفن.
إنَّني لن أعاتب الأمَّ الظَّالمة، ولن أطالب بمحاسبة المسئولين الذين أغمضوا العين عن معاناة الملايين، وأدعو الله ألا يسامحهم، ولكنَّني أذكر بكلِّ ألمٍ وأسى رجال الدِّين الذين كان يمكنهم أن يشدُّوا على أيدي المظلومين، وأن يدفعوا القادرين دفعًا إلى إنقاذ مثل هؤلاء، ولكنَّهم اكتفوا بأن يمسخوا الدِّين، ويجعلوا أنفسهم، ويجعلونا معهم، أضحوكة، وأن يتفرَّغوا ليكوِّنوا ثرواتهم الحرام من الإتجار بالدِّين؛ ليصبح الدِّين، الذي أساسه الزُّهد والورع والقناعة، مصدرًا لتكوين الثَّروات، وكنز الملايين، والأمثلة أكثر من أن تُحصَى:
– الملياردير (عمرو خالد ) و (الدَّجاج الذي يأخذك إلى الجنَّة ) .
– المالتي ملياردير (معزّ مسعود ) الذي لم يجد ما يدافع به عن نفسه إزاء مَن انتقدوه لزواجه من فنَّانةٍ غير محجَّبةٍ، إلا بأن ينفي عن نفسه صفة (داعية ) ، قائلا إنَّه مجرَّد (باحثٍ ) [وكأنَّه اكتشف ذلك فجأة ] ، وأن يحتقر الحجاب الذي طالما دافع عنه ودعا إليه، مكتفيًا بوصفه بـ (غطاء الرَّأس ) ؛ في محاولةٍ تعيسةٍ للتَّهوين من شأنه وأثره.
– الشَّيخ (علي جمعه ) الذي استعار تعبيرًا يُقَال في جميع المسرحيَّات الكوميديَّة من باب الفكاهة والسُّخرية ليس إلا؛ ولكنَّه استخدمه هذه المرَّة بكلِّ جدِّيَّة ليطالب الفقراء بـ (الاكتفاء بأكل قطعة جاتوه يوميًّا ) ، متقمِّصًا روح (ماري انطوانيت ) ، ومتناسيًا أنَّ في مصر عشرات الملايين لا يعرفون أصلا ما هو هذا الـ (جاتوه ) !!
ليست المشكلة أنَّ هؤلاء قد اشتروا الدُّنيا بالآخرة، ولكنَّ المشكلة أنَّهم يريدون أن يفسدوا علينا ديننا بعد أن أفسد حكَّامنا دنيانا.
لنا الله.